فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قوله: {الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول} يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر. لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز، فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر، إذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي.
لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر. اهـ.

.قال القرطبي:

والمعنى لو يسوّي الله بهم الأرض، أي يجعلهم والأرضَ سواء.
ومعنى آخر: تَمنّوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم؛ لأنهم من التراب نقلوا.
وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة، والمعنى تمنّوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها؛ قاله قَتادة.
وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تُسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم؛ عن الحسن.
فقراءة التشديد على الإدغام، والتخفيف على حذف التاء.
وقيل: إنما تمنّوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مُخلَّدون في النار؛ وهذا معنى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] وقيل: إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمةُ للأنبياء على ما تقدّم في البقرة عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] الآية.
فتقول الأمم الخالية: إن فيهم الزُّناة والسرّاق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المشركون: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون؛ فذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} يعني تخسف بهم. والله أعلم. اهـ.

.قال الطبري:

وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابًا، إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك. وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك، فقد تمنى أن يكون ترابًا. على أن الأمر وإن كان كذلك، فأعجبُ القراءة إليّ في ذلك: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ}، بفتح التاء وتخفيف السين كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [سورة النبأ: 40]. فأخبر الله عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابًا، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا: {يا ليتني كنت ترابًا}. فكذلك قوله: {لو تَسوّى بهم الأرض} فيسوَّوا هم. وهي أعجب إلي، ليوافق ذلك المعنى الذي أخبرَ عنهم.
بقوله: {يا ليتني كنتُ ترابًا}. وأما قوله: {ولا يكتمون الله حديثًا}، فإن أهل التأويل تأوّلوه بمعنى: ولا تكتم الله جوارحُهم حديثًا، وإن جحدتْ ذلك أفواههم. اهـ.

.قال الفخر:

ذكروا في تفسير قوله: {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} وجوها:
الأول: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى.
والثاني: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء.
الثالث: تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: {يا ليتنى كُنتُ ترابا} [النبأ: 40]. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} فيه لأهل التأويل طريقان: الأول: أن هذا متصل بما قبله.
والثاني: أنه كلام مبتدأ، فإذا جعلناه متصلا احتمل وجهين: أحدهما: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا كفروا به ولا نافقوا، وعلى هذا القول: الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، الثاني: أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا، قالوا: تعالوا فلنجحد فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا.
الطريق الثاني في التأويل: أن هذا الكلام مستأنف، فإن ما عملوه ظاهر عند الله، فكيف يقدرون على كتمانه؟. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وفي معنى الآية ستة أقوال:
أحدها: ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين، قاله الحسن.
والرابع: أن قوله: {ولا يكتمون الله حديثًا} كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: لو تسوى بهم الأرض، هذا قول الفرّاء، والزجاج.
ومعنى: لا يكتمون الله حديثًا: لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله.
والخامس: أن المعنى: ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا.
والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذبًا، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري.
وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهّموا، إِذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا. اهـ.

.قال ابن عطية:

أخبر أنهم {لا يكتمون حديثًا} لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثًا، وهذا قول ابن عباس، وقال فيه: إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي، فقالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين}، فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثًا، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر، وقالت طائفة: مثل القول الأول، إلا أنها قالت: إنما استأنف الكلام بقوله: {ولا يكتمون الله حديثًا} ليخبر عن أن الكتم لا ينفع، وإن كتموا، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم، فمعنى ذلك: وليس ذلك المقام الهائل مقامًا ينفع فيه الكتم.
قال القاضي أبو محمد: الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمتع إليه، وقالت طائفة: الكلام كله متصل، ومعناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ويودون أن لا يكتموا الله حديثًا، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين}، وقالت طائفة: هي مواطن وفرق، وقالت طائفة: معنى الآية: يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثًا، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضًا، كما تقول: وودت أن أعزم كذا، ولا يكون كذا على جهة الفداء، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} قال الزجاج قال بعضهم: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا}.
مستأنف؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.
وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى يودّ لو أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثًا؛ لأنه ظهر كذبهم.
وسئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلُهم فلا يكتمون الله حديثا.
وقال الحسن وقَتادة: الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها.
ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. اهـ.

.قال في روح البيان:

لا تضيع أيامك فإن أيامك رأس مالك وإنك ما دمت قابضا على رأس مالك فإنك قادر على طلب الربح لأن بضاعة الآخرة كاسدة في يومك هذا فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة في وقت الكساد فإنما يجيئ يوم تصير هذه البضاعة عزيزة فأكثر منها في يوم الكساد ليوم العزة فإنك لا تقدر على طلبها في ذلك اليوم.
روى أن الموتى يتمنون أن يؤذن لهم بأن يصلوا ركعتين أو يؤذن لهم أن يقولوا مرة واحدة لا اله الا الله أو يؤذن لهم في تسبيحة واحدة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الأحياء أنهم يضيعون أيامهم في الغفلة. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؟.
والجواب من وجوه:
الأول: أن مواطن القيامة كثيرة، فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} [طه: 108] وموطن يتكلمون فيه كقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} [النحل: 28] وقولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فيكذبون في مواطن، وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} [الأنعام: 27] وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم.
الثاني: أن هذا الكتمان غير واقع، بل هو داخل في التمني على ما بينا.
الثالث: أنهم لم يقصدوا الكتمان، وإنما أخبروا على حسب ما توهموا، وتقديره: والله ما كنا مشركين عند أنفسنا، بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} وفى سورة النحل: {وجئنا بك شهيدا على هؤلاء}.
للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما اختلف في هاتين الآيتين في التقديم والتأخير من قوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} وقوله: {وجئنا بك شهيدا على هؤلاء} مع اجتماعهما في معنى واحد من شهادة الرسل على أممهم وشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم على أمته؟